[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]أنطباع أول _ لست أذكر بالضبط المرة الأولى التي رأيت فيها " الحكيم " جورج
حبش , فهو كأي رجل مشهور , تسبقه سيرته , فيما تميزه ومكانته فرضت علي
حالة من الترقب, كيف يمكن لي أن أجلس في حضرته , وماذا عساي أفعل لألفت
إنتباهه !
هو بدد هذا الترقب أو التوجس " بأبوته الحانية , ثم فرض حضوره " بكاريزماه "
التي لا مثيل لها الا عند الرجل العظيم _ عبد الناصر _ , حين جسد إنحيازه
الحاسم لفقراء العرب , في خطبة ما زلت أذكرها ,
في النادي العربي بمخيم اليرموك في دمشق , في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية
, حين هتف قائلا : يخشون على نفط الخليج ؟ بم أفاد هذا النفط الشعوب
العربية ؟ ليذهب الى الجحيم اذا !
درس أول _ إلتقيته يوما , وجلست الى جواره _ وحدنا تقريبا _ لنبحث في
إحتياجات الشبيبة الثقافية , يومها تعملت منه درسا أول , لم أشهده لدى أي
قائد عربي , على الإطلاق , وهو حسن الاستماع والإنصات , حيث ترك لي المجال
والوقت كاملا لأتحدث وأقول كل ما أود قوله , ثم بعد ذلك إستأذن بأدب جم
وبأخلاق لا مثيل لها , ليبدي وجهة نظره فيما قلت !
ناجي العلي _ نظمت الشبيبة يوما عرضا لكاريكاتيرات الراحل ناجي العلي ,
ودعته لإفتتاحه , جاء بكل بساطة ودونما أي هيلمان أو مرافقة , تجول داخل
جنبات المعرض , ثم عرج الى " دفتر الزوار " وسجل كلمته :
ناجي العلي كان تنظيما في رجل .
جبرا إبراهيم جبرا _ حين علم بأننا في الشبيبة نظمنا منتدى ثقافي على إسم
الراحل غسان كنفاني , سألني إن كنت قرأت جبرا إبراهيم جبرا , وحين أجبته
بالنفي , لم يمتعض , لكنه في اليوم التالي , أرسل مرافقه " سيف " بحزمة من
الروايات , اذكر منها " صورة دوريان جراي " , و " البحث عن وليد مسعود "
قرأتها بشغف وبإهتمام , أكثر من مرة , لتبقى بعد ذلك الرواية الأثيرة عندي ,
ومازلت حتى اللحظة أعتبرها واحدة من أهم ما كتب ضمن جنس الرواية العربية
على الإطلاق .
غسان كنفاني _ ولإنه كان يدرك أهمية الثقافة , وكان يحرص على أن يتابع
أخبارها أولا بأول , فقد كلف مدير مكتبه _ علي حمدان _ بأن يرسل له يوميا "
تقريرا ثقافيا " , وكان أن عرض علي "علي حمدان" مهمة مراجعة وعرض ما يصدر
من قصص وروايات , وكانت باكورة هذه المهمة مجموعة للقاص الفلسطيني حسن
حميد , قرأت المجموعة , ثم كتبت عنها صفحة واحدة . بعد يومين كان يرسل في
طلبي , وقد أعجب بما كتبت , ليسألني أن كنت أحتاج شيئا , حتى أنمي موهبتي ,
حيث قال لي , منذ رحل غسان كنفاني , لم ألتق برفيق على موهبته , مثلك ,
وسألني هل أجد وقتا للقراءة ؟ أجبته بأني أقرأ كل يوم لمدة أربع ساعات ,
بعد أن أنتهي من مهماتي المتعددة , ربت على كتفي , وكانت علامات الرفح تبدو
واضحة على وجهه .
إبراهيم الراعي _ أثارت إهتمامي قصة الشهيد إبراهيم الراعي , وحيث أني كنت
في دمشق , وكانت أحداث القصة قد وقعت في الضفة الغربية , طلبت من مكتبه أن
يزودني بكل المعلومات الممكنة عن الشهيد الراحل , ليتسنى لي أن أكتب عنها
رواية , لم يتردد لحظة في الايعاز لهم , بإرسال كل ما يتعلق بالحكاية ,
وصادف أني _ وقتها _ ذهبت الى لبنان لأداء الخدمة الثورية , فوجئت وأنا في
روضة البقاع بالطرد البريدي يجيئني من مكتبه , وكأنه يشجعني على كتابة
الرواية , التي قدر لها بعد ذلك بعدة شهور أن تفوز بجائزة سعاد الصباح ,
وبثقة الروائي العربي الكبير يوسف القعيد , وتنشر في القاهرة .
خليل الوزير _ حين أستشهد " أبو جهاد " , أقفل الحكيم عليه باب مكتبه ,
فيما كان صوت بكائه على الراحل يصل مسامع من يعمل معه في مكتب أمانة سر
المكتب السياسي , دخلت عليه صحفية أجنبية , وحين رأت في مكتبه خارطة فلسطين
وصورة " أبو جهاد " سألته : من هذا ؟
اجباها : أبو جهاد
ردت قائلة : هو فتح وأنت جبهة شعبية !
فطن الى خبث السؤال , فرد على الفور : هو رفيقي في النضال من أجل فلسطين .
ميشيل خليفة _ على غير عادة معظم القادة , الذين ينهمكون في الهم السياسي ,
كان الحكيم يهتم كثيرا بالثقافة الجادة , الملتزمة , وكانت مناسبة مهرجان
دمشق السينمائي , لا تكاد تمر دون ان يهتم بها . وفي دورة شارك فيها ميشيل
خليفي , دعا الحكيم نفرا من المخرجين : صلاح أبو سيف , علي بدرخان , داوود
عبد السيد , نوري بوزيد , أسامه محمد , محمد ملص , عمر أميرلاي , جبريل عوض
... يومها كنت رسوله الى ميشيل , الذي أخذته اليه وهو لا يكاد يصدق بأنه
سيلتقي " الحكيم " . لم تكن حميمية اللقاء من طرف واحد فقط , فقد إحتضنه
الحكيم كمن وجد إبنا له , لم يلتقيه منذ سنين .
الوطن في المنفى _ إنطباع أخير / ... وبعد كل هذي السنين , يمكن القول بأني
أحس بأن الحكيم جورج حبش والزعيم ياسر عرفات كانا يمثلان وطن الفلسطينيين
في المنفى , الذي هو بهما كما الطريق الى إيثاكة , ربما كان أجمل من المنفى
في فلسطين , وإذا كان عرفات ربان سفينة الثورة , فإن الحكيم كان روحها
الوثابة وطاقتها الكامنة , وقوة الدفع التي تبث فيها روح التجديد والحيوية
بإستمرار .
مستقبل الأحلام _ بقدر ما كان الحكيم حالما ثوريا , بقدر ما سيظل خالدا في
قلوب وعقول الناس , حيث سنظل نجد من يؤمن بالاحلام الثورية , ويقبض على كنه
الحياة , في تجددها , وفي ذهابها الى المستقبل الواعد , تماما كما رسمتها
الأشعار وصورتها اللوحات , وهجس بها ذلك الجيل من المبدعين والقادة , الذين
كان يتقدم صفوفهم _ هذا الحكيم _ الذي يرحل اليوم , ويترك من ورائه سيرته
وسيرة ثورة عظيمة , شارك في صنعها وقيادتها وتحديد ملامح برنامجها , تلك
الثورة التي جعلت من الفلسطينيين شعبا , أثار الحياة في صحراء عربية قاحلة .